رواية ضبط واحضار بقلم منال سالم

موقع أيام نيوز

بدموعها الغالية لتظل متعلقة ببصرها على شاهدي قبري والديها وهي تبدي لوعتها لفراقهما العزيز. مدت بسنت ذراعها لتحاوطها من كتفيها لتضمها إليها وحاولت مواساتها بكلماتها البسيطة لعل جراح قلبها تهدأ ولكن كيف يسكن القلب وهو يتحرق شوقا وألما لمن غاب عن الحياة. تنحنح سليمان متحدثا بصوت مهموم
خلونا نمشي يا بنات.
ردت عليه بسنت من تلقاء نفسها
ماشي يا عمو.
حين خرج ثلاثتهم من الداخل تفاجئوا بأن سيارتهم محاصرة من الثلاث جهات بسيارات أخرى تسد عليهم الطريق. تقدم سليمان في خطواته ليلقي نظرة فاحصة عن كثب وهو يهتف متعجبا
جوم امتى دول
افترضت بسنت مجازا
جايز في جنازة دلوقت.
قال سليمان بعد هزة سريعة من رأسه
الظاهر كده لأن الزحمة مش طبيعية.
حاول نظريا تقدير إمكانية تحريك السيارة وإخراجها من المسافة البسيطة المتروكة بحسبة عقلية سريعة دون أن يحتك بأي من السيارتين اللاتين تحاصران خاصته من المقدمة بدا ذلك عسيرا عليه فالضرر حتما سيقع وإذ ربما قد ينبعج الصاج المعدني. زفر في يأس ثم أشار بيده لكلتيهما آمرا
خليكوا أعدين في العربية بدل ما تفضلوا واقفين في الشمس.
استجابت الاثنتان له وبقيتا بداخل السيارة لوقت ظل ممتدا لما يقرب من النصف ساعة. على ما يبدو ضجر سليمان من الانتظار السخيف فسار نحو الأمام دون أن يخبرهما أي شيء لهذا تساءلت بسنت مستوضحة من رفيقتها
هو عمك رايح فين كده
أجابتها بهاء بغير اهتمام وهي تغوص أكثر في مقعدها لتغفو
مش عارفة جايز شاف حد يعرفه.
عندما ابتعد قليلا عن ابنة شقيقه وصديقتها تمكن من رؤية الحشد الغفير المرابط حول بوابة إحدى المقاپر العائلية بالصدفة تقابل مع من كانوا رفاقه قديما فتبادل معهم التحية بوقار ليجمعه القدر بعدئذ بابن صديقه الراحل سحبه بعيدا عن الزحام ليتمكن من الحديث إليه في محبة وألفة. استمر سليمان في مصافحة ذلك الشاب الفتي بحرارة وهو يتحدث إليه بأسلوب لطيف
ولو إن الظرف مش مناسب بس أنا مبسوط إني قابلتك يا عامر ده إنت الغالي ابن الغالي.
كان الأخير على نفس الدرجة من السرور لرؤيته وعبر عن ذلك حين أخبره بصدق
ده الشرف ليا يا عم سليمان ده أنا كأني شوفت أبويا الله يرحمه.
ثم أشار بيده الأخرى نحو شقيقه الأصغر معرفا به
فاكر عمر أخويا أكيد شكله اتغير عن زمان.
نظر سليمان ناحيته في إعجاب قبل أن يقول وهو يمرر يده لمصافحته
ما شاء الله كبر آخر مرة قابلته كان تقريبا لسه في الكلية.
ابتسم عمر في تهذيب وخاطبه
أنا خلصتها من زمان وشغال دلوقتي.
لتقضي على شعورها بالملل الذي راح يستحوذ عليها من الانتظار غير المجدي كانت بسنت تعبث بهاتفها المحمول لبعض الوقت تتابع ما ينشره الآخرين من أخبار ما بين جادة ومازحة ومن ثم أغلقته ووضعته بحقيبتها لتطوف بحدقتيها على ما حولها لكن ما لبث أن غطى وجهها نظرة عظيمة مصډومة حينما أبصرت مصادفة عم رفيقتها يتحدث إلى ذلك الشاب الذي تعرفه جيدا رمشت بعينيها لتتأكد أنها لا تتوهم ما تراه تدلى فكها للأسفل وراحت تهز رفيقتها الغافلة لتخبرها بصوت خفيض مضطرب
إلحقي يا بيبو مش هتصدقي مين واقف مع عمك.
بدا صوت بهاء ناعسا إلى حد ما وهي تسألها
في إيه
عمر الناغي!
بمجرد أن سمعتها تتلفظ باسمه انتفضت قائمة كأن أحدهم صعقها بتيار كهربي حملقت نجو الجانب بعينين متسعتين وهتفت في صدمة كبيرة
بتقولي مين !!
يتبع الفصل الخامس
الفصل الخامس
وكأن كسوفا كليا للشمس قد حدث لتوه فأحال السماء المضيئة إلى ليل حالك فحضور ذلك الشخص المزعج وحديثه بأريحية أقلقها وجعل الأفكار تتصارع في رأسها المشحون. توترت بهاء وارتاعت بسنت وراحت الاثنتان تحملقان بأعين متسعة في وجه عمر المسترخي تماما. لم تجرؤ أيا منهما على النطق بكلمة فساد صمت مخيف في الأجواء تتخلله الهمهمات غير الواضحة بين الثلاثة أشخاص.
بدا صوت بسنت مرتعشا وهي تهمس بالقرب من أذن رفيقتها
تفتكري بيقولوا إيه
ردت عليها بهاء في صوت خفيض ممزوج بالقلق
مش عارفة بس قلبي مش مرتاح.
عبرت الأولى عن مخاوفها قائلة پذعر احتل كامل تقاسيم وجهها
ولا أنا واحتمال يكونوا بيتكلموا عننا وبيحكي عن اللي حصل وآ..
مالت بهاء برقبتها للجانب قليلا حتى تتمكن من الحصول على زاوية رؤية جيدة بدا من موضعها أنه غير قادر على رؤيتها فاستراحت إلى حد ما وتراجعت إلى مكانها هاتفة في صوت خفيض
هو شكله مش شايفنا أصلا!
أراح صديقتها هذا الاعتقاد المؤقت وأمنت عليها
يا ريت بجد.
ظللت كلتاهما محاصرتان في موجة من الأفكار المضطربة وتأملان في أعماقهما أن ينقضي هذا اللقاء سريعا دون أن يدري هو تحديدا بوجودهما.
رغم ارتفاع درجة حرارة الجو نسبيا إلا أنها لا تقارن أبد بحرارة المشاعر الصادقة المتبادلة بينهم فما أجمل استعادة ذكرى الأحباب الراحلين بالالتقاء بمن يعيد إحياء ما فقد وتناسى عبر السنوات. باهتمام واضح تساءل سليمان وهو يمسح بمنديله القماشي العرق الذي راح يتجمع عند جبينه
والست الوالدة كويسة
أجابه عامر باسما
الحمدلله هي بخير.
رد عليه في نبرة تقدير
دايما يا رب هي من خيرة الناس والله.
شكره على لباقته مرددا
تسلم يا عم سليمان.
استطرد متحدثا بحماس ظاهر
صحيح نسيت أعرفكم ببنت أخويا حاجة من تربية زمان.
ثم استدار برأسه نحو سيارته مناديا
تعالي يا بيبو.
نفضة قوية جعلت بهاء تقفز في مقعدها عندما ناداها عمها فجأة وأخذت تهسهس
استر يا رب.
أحست بدفقة من الخۏف تتفشى في كامل بدنها بسرعة البرق بالطبع كانت بسنت أشد رهبة منها وتشبثت في ذراعها أكثر وسألتها بصوت فزع للغاية
هنعمل إيه دلوقت
ابتلعت ريقا غير موجود في جوفها وأخبرتها
هننزل طبعا هو احنا عندنا حل تاني.
التلكؤ أو المماطلة لن يجدي نفعا فالأمر محسوم مقدما وعليها الترجل من السيارة ومواجهته. حاولت بهاء أن تخفي اضطرابها ورغم هذا عكس وجهها ارتباكها تصنعت الابتسام فخرجت بسمتها مهتزة وسارت تجاه عمها بخطوات شبه بطيئة ومن خلفها تحركت رفيقتها المڤزوعة وهي لا تتوقف عن الدعاء.
استجمعت بهاء جأشها وأصبحت مرئية للثلاثة رجال لكنها افتقرت للشجاعة لتنظر إليهم لهذا طأطأت رأسها قليلا لتتحاشى النظرات المسلطة عليها وتكلمت في صوت مطيع
أيوه يا عمي.
حاډثها سليمان في نبرة مبتهجة
تعالي يا بيبو سلمي على المقدم عامر والرائد عمر.
تلقائيا رفعت بصرها للأعلى لتنظر صوبهما فزاد خفقان قلبها وتوترها مع رؤيتها لنظرة عمر مثبتة عليها في التو أبعدت عينيها المرتبكتين عنها وركزت بصرها على عامر الذي وجدته يمد ذراعه لمصافحتها بادلته المصافحة مرددة بأدب
أهلا وسهلا بحضرتك.
في التو غازلها عامر بمرح وهو يغمز بطرف عينه
معقولة عندك الجمال ده ومخبيه عننا.
على الجانب الآخر بدا عمر متفاجئا لرؤيتها لكن ما لبث أن أخفى اندهاشه ليظهر تعبيرا جديا على ملامحه وبطريقة رسمية بادر بتحيتها
إزيك يا أستاذة بهاء
ذهلت من إخبار الجميع بطريقة مبطنة أنه على صلة بها مما ضاعف من ربكتها وتوترها. طافت بنظرة مماثلة لارتباكها على من حولها قبل أن تقول بتذبذب
آ.. الحمد لله.
انتصب عمر في وقفته الشامخة أكثر وقال موجها كلامه إلى من تتوارى خلفها عن الأنظار
مش اسمك بسنت برضوه
لم تجرؤ على النظر إليه وردت بصوت مرتعش
أيوه.. ده اسمي.
في استغراب مشوب بالحيرة تساءل عامر وهو يتطلع إلى شقيقه
هو إنت تعرفهم ولا إيه
بنبرة متغطرسة أجابه
أيوه أنا اللي
تم نسخ الرابط